ساعة الكوكو التي غيرت حياتي ....!!
كم كنت سعيداً حينما يخرج هذا الطائر الصغير من ساعة الحائط ذات الصندوق الخشبي البُني
اللون عند كل ساعة ليقول
كوكو ....كوكو
عدة مرات تبعاً لعدد
الساعات ....فإذا كانت الساعة الواحدة سمعنا هذا الطائر مرة واحدة .....وهكذا .
ساعة الكوكو
قصة قصيرة كتبها الأديب الرائع والنجم الساطع ميخائيل نعيمة ضمن مجموعة قصصية في كتابه الشهير
كان ما كان
الذي كتبه في عام 1932
أعلم انه قد نفذ صبرك عزيزي القارئ .....وربما تسألني عن سر علاقتي بساعة الكوكو وأهم وقرارات ربما اتخذتها
متأخراً في حياتي .....!!
ساعة الكوكو
تحكي قصة حب بين زمردة وخطّار , كل القرية كانت تقول زمردة لخطّار وخطّار لزمرده , في تلك الأثناء عاد إلى
قريته بجبل
لبنان مهاجر لبناني يحمل معه تلك الأعجوبة
ساعة الكوكو
التي أخذت عقل زمردة وراحت تقارن بين صاحب الساعة وخطّار , قرر خطّار أن يحقق حلم حلم زمردة بإقتناء
ساعة الكوكو
.....ركب خطار البحر مغادراً قريته بجبال لبنان متجهاً
إلى أمريكا .... وضاع مع الأيام ونسى حبه القديم . القصة تحكي مدى الإنبهار بحضارة الغرب في الوقت الذي
ضاعت فيه حضارة العرب .
الجدير بالذكر أن أديبنا الرائع
ميخائيل نعيمه
عاش 99 عاماً أي نحو قرن من الزمن , قرن من التجارب والفكر
والفن والأدب ,
حاولت أن استفيد من هذا القرن الإبداعي الذي يختال بين دراسته في
أوروبا الشرقية
بجامعة
بولتافيا الأوكرانية
بين عامي 1905 و1911 حيث دراسة الأدب الروسي ثم درس الحقوق في أمريكا ,
فهو عربي
المنشأ بينما جعبته الثقافية مملوءة من ثقافة الغرب الشرقي
والشرق الغربي , بين أمريكا وروسيا , انضم إلى الرابطة القلمية وكان نائباً لرئيسها جبران خليل جبران في أرض المهجر بأمريكا
ولد
ميخائيل نعيمة في بسكنتا في جبل صنين بلبنان عام 1889 وتوفي 1988 .
كان أديبنا الفذ واسع الثقافة والإطلاع موسوعي , ساعد في تطوير كتابة القصة العربية , فضلاً عن مدرسته في النقد الادبي بعيداً
عن التعصب الديني والعرقي , معظم كتاباته كانت تدور حول الطبقة
الكادحة , من أهم أعماله
كان ما كان
مجموعة قصصية من بينها
ساعة الكوكو
والتي كتبها عام 1932.
رافق الراحل نعيمه الشاعر جبران خليل جبران الذي ولد في 1883 وتوفي في نيويورك 1931 , والدراس لسيرة كلا من
الرجلين يجد أنهما من آعلام التنوير الغربي الذي بدأ في القرن الثامن عشر .
بعد
تلك الدراسة قررت الإنتباه لدراسة أدب أوروبا الشرقية والسفر لتلك الدول والإقامة فيها سنوات بعد الدكتوراه الأولى
في فرنسا
, باحثاً عن ساعة الكوكو في اقليم البلقان وفي المجر ورومانيا وبلغاريا
وفوق جبال الكاربتس وعلى ضفاف دلتا الدانوب الذي يشق عشرة دول
أوربية .....شاهدت أطلال حضارة المسلمين في بلاد أوروبا الشرقية ....مساجد تحولت الآن إلى متاحف
مساجد أثرية تحمل عبق التاريخ والفن والحضارة الإسلامية تُباع بالمزاد العلني وهي تبكي دماً قبل أن تبكي دمعاً
في الوقت الذي تُلقى فيه ملايين الدولارات في الحانات من بشر يُقال انهم مسلمون , درست بعض لغات تلك
البلاد وقرأت أدابها بالرومانية ولاسيما للأديب الشاب العبقري ميهاي أمينسكو الذي ولد في مقاطعة مولدوفيا عام 1850 وتوفي
عام 1889 ....وهو بالطبع من آعلام التنوير في أوروبا الشرقية في القرن الثامن عشر , عشت تاريخ الدولة العثمانية في تلك
البلاد ....رأيت مخطوطات عربية أصلية ....صليت مع الناس في بلغاريا وحضرت ليلة القدر في مسجد يرجع تاريخه إلى القرن
الخامس عشر ....عشت حلاوة الماضي ومرارة الحاضر ......!!
لم أشعر بهويتي الثقافية التي بدأت تفيئ بظلالها الوارفة إلا بعد تلك الرحلة التي أخذت مني سنوات حتى أسطيع
الطيران والتحليق
في الفضاء بمزيج ثقافي عربي مسلم , أوروبي غربي وايضاً أوروبي شرقي , فضلاً عن زيارتي للمتاحف وديار
الأوبرا العالمية
شعرت بأنني ولد بار من أبناء تلك الطبيعة الساحرة التي تحنو عليّ بعلمها وفكرها وفلسفتها
ثم رحلة التأمل والتصوف والدلوج لمعامل الكيمياء والفيزياء والحسابات والمثلثات وغيرها
وصولاً إلى التفكير في العلوم الكونية من أفلاك وذرات ومجرات ومحاولة كتابة خواطري العلمية نحو
القرآن الكريم
بكل إحساس
عشته مع هذا الكتاب الكريم الذي هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , فضلاً عن قراءة
العهدين القديم والجديد
وفهم روح نص الحكمة من خلالهما .
تلك هي خاصية التلقيح الثقافي
التي تقود المرء نحو فكر معتدل ورؤية أوضح وسلام نفسي ينسجم مع الكون كله ويحقق قيمة
العبودية والعبادية لله رب العالمين .
هنا كانت ساعة الكوكو تصمت , لا تريد إخراجي من تلك العباءة الكونية من الفكر والإبداع .
في كل مرة أصغي لساعة الكوكو التي تعنفني عن التأخير في القيام بتلك الرحلة التي قمت بها خلال السنوات الأخيرة من حياتي
.....حاولت أن اقرأ القرن الفريد من عمر ميخائيل نعيمه ...
أن أكون وسطي
الثقافة وشرقي وغربي العلم والفكر والإبداع
.
الان دقت الساعة وخرج الطائر ليأذن لي بالرحيل , لقد حانت ساعة الكوكو .
كو كو ....كو كو
المفضلات