*****
فوق الرصيف
استوطن توفيق ناصية شارع ( كلوت بك ) فوق الرصيف واتخذ من المكان سكناً ... يقضي معظم وقته فيه جالس على كرسيه المتحرك بعد أن أصابه الشلل في إحدى قدميه ، يجول ببصره في وجوه المارة كأنه يتفقدهم كأنه يبحث عن غائب بينهم فارقه . وهو في شوق لرؤياه ...!يسبح في ملكوته حيث يأخذه الخيال فيطير في أجواءه ويحط فوق الرُبّا ويضع رحاله ليأخذ متنفسه ويندى روحه التي تكاد تجف من وقع الظمأ ، يزهر كما تزهر الأشجار ويغرد كالطير إن أتحفه الخيال بنسمة من ربيع العمر وهواء الماضي فينتشي ويحلق ويطرب .
*****
سيارة فارهه تنحاز موازية للرصيف .. لتقف! ... يبدو على راكبها الثراء ، يفلج بابها ويطل قائدها برأسه ....ينظر من تحت زجاج نظارته السوداء ... يجول بعينيه فيما نثر فوق خرقة من القماش على وجه سطع الرصيف ... تلك بعضاً من كتب تركها أصحابها ، بعد أن شبعوا منها وقتلوا سطورها بحثاً ، ثم ألقوها لبائعين ( الروبابكيا ) بأبهظ الأثمان ليتخلصوا منها ، لقد آلت إلى توفيق بعد عناء وهو ينتشلها من قبورها ليحيها بعد الموت ويبعثها لتحيا مرة أخرى بين يدي قارئ محباً للقراءة أو مطلع باحث ...... يعود صاحب السيارة لينظر بعين خفية على وجه الجالس على كرسيه ليتفقده ...! تعلو الابتسامة وجهه وهو يبتسم ويمضي في ثبات وغبطة معتلياً الرصيف ليقف منحيا أما م بائع الكتب القديمة ....!
يقلب عينيه في عناوين الكتب الماثلة أمامه، المدرجة فوق قطعة القماش ،لم يُغْفلُ النظر بوجه الجالس .... حتى أثار فضول صاحب السيارة ، توفيق على كرسيه ....توسم فيه الرغبة للشراء ...فراح يشير بعكازٍ في يده على بعض الكتب ، هذا كتاب ( بيان الختام لأهل الفضل والإحسان ) ..وهذا الأغاني للأصفهاني
وهذا لابن رشد الأندلسي وهذا... وهذا .....!
تناول صاحب السيارة كتاباً ولم يسأل عن ثمنه وإنما وضع يده في جيب معطفه ، ثم أخرج ورقة من البنكنوت ومد يده يغرسها في كف توفيق وقد انحنى وهو يقبض على يده بشده ،ويضع شفتيه على ظهر يده وهو يقبلها بنهم وحب ، وتوفيق يود أن يسحب يده فلا يستطيع وهو يقول مهلاً يا ولدي وعفواً يا سيدي حماك الله ورعاك وبارك الله فيك مهلاً ....!
صاحب السيارة : لماذا مهلاً أستاذي ؟ ....مهلاً وكيف ...! علني أستطيع ...أستطيع !. توفيق : ماذا تسنطيع ؟. صاحب السيارة : أنت تستحق أكثر مما أفعل بكثير ، أعطني قدميك أقبلهما . أعطني رأسك أقبلها . حماك الله أستاذي ورعاك ... ألا تعرفني ......؟ غاص الأستاذ توفيق بعينيه في ملامح تلميذه والذي لم يتعرف عليه بعد ...!كأنه راح يبحث في عمق محيطه الثري ليرى أن ما زرعه قد أتى بثماره ......
بقلم : سيد يوسف مر سي
ساهم معنا في نشر الموضوع
المفضلات